فصل: تفسير الآية رقم (116):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (115):

{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}.
قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} أَيْ: أَوْصَيْنَاهُ أَلَّا يَقْرَبَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ. وَهَذَا الْعَهْدُ إِلَى آدَمَ الَّذِي أَجْمَلَهُ هُنَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [2/ 35]، فَقَوْلُهُ: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ هُوَ عَهْدُهُ إِلَى آدَمَ الْمَذْكُورُ هُنَا.
وَقَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [7/ 19]،.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنَسِيَ فِيهِ} لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ التُّرْكُ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَ التَّرْكِ عَمْدًا. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ النِّسْيَانَ وَتُرِيدُ بِهِ التَّرْكَ وَلَوْ عَمْدًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [20/ 126]، فَالْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّرْكُ قَصْدًا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [7/ 51]،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [32/ 14]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [59/ 19]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [45/ 34]. وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَنَسِيَ أَيْ: تَرَكَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَرْكِ الْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ فِي الْآيَةِ: النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أَقْسَمَ لَهُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَهُ نَاصِحٌ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ رَبُّهُ عَنْهَا غَرَّهُ وَخَدَعَهُ بِذَلِكَ، حَتَّى أَنْسَاهُ الْعَهْدَ الْمَذْكُورَ. كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [7/ 21- 22]،. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ اهـ. وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ ** وَلَا الْقَلْبُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ

أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [20/ 121]، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَفِيهِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. لِأَنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ فَكَيْفَ يُقَالُ فِيهِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى.
وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْجَوَابِ عِنْدِي عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بِالنِّسْيَانِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كِتَابِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْعُذْرَ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. كَقَوْلِهِ هُنَا فَنَسِيَ مَعَ قَوْلِهِ وَعَصَى فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ النِّسْيَانُ، وَالْعِصْيَانُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِالنِّسْيَانِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [2/ 286]، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ. فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْفُوًّا عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ وَتَعْظِيمِ الْمِنَّةِ عَظِيمُ مُوقِعٍ. وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [2/ 286]، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». فَقَوْلُهُ «تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي» يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِأُمَّتِهِ. وَلَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ. لِأَنَّ مَنَاطَ التَّجَاوُزِ عَنْ ذَلِكَ هُوَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ.
وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَلَهُ شَوَاهِدُ ثَابِتَةٌ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ. وَلَمْ يَزَلْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَتَلَقَّوْنَهُ بِالْقَبُولِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْمَشْهُورِ فِي الَّذِي دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ قَرَّبَهُ مَعَ أَنَّهُ مُكْرَهٌ وَصَاحِبُهُ الَّذِي امْتَنَعَ مِنْ تَقْرِيبِ شَيْءٍ لِلصَّنَمِ وَلَوْ ذُبَابًا قَتَلُوهُ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي قَرَّبَهُ مُكْرَهٌ. لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَرِّبْ لَقَتَلُوهُ كَمَا قَتَلُوا صَاحِبَهُ، وَمَعَ هَذَا دَخَلَ النَّارَ فَلَمْ يَكُنْ إِكْرَاهُهُ عُذْرًا. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [18/ 20]، فَقَوْلُهُ: يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى الْإِكْرَاهِ، وَقَوْلُهُ: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْعُذْرِ بِذَلِكَ الْإِكْرَاهِ. كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي شَرْعِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ مِنَ التَّكْلِيفِ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} الْآيَةَ [4/ 92]. فَتَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ هُنَا كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ الْقَتْلِ خَطَأً. وَالْكَفَّارَةُ تُشْعِرُ بِوُجُودِ الذَّنْبِ فِي الْجُمْلَةِ. كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ خَطَأً: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [4/ 92]، فَجُعِلَ صَوْمُ الشَّهْرَيْنِ بَدَلًا مِنَ الْعِتْقِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مُؤَاخَذَةً فِي الْجُمْلَةِ بِذَلِكَ الْخَطَأِ، مَعَ قَوْلِهِ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [33/ 5]، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [2/ 286]، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ، فَالْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْإِثْمُ مَرْفُوعَةٌ، وَالْكَفَّارَةُ الْمَذْكُورَةُ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هِيَ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ فِي التَّحَفُّظِ، وَالْحَذَرِ مِنْ وُقُوعِ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [20/ 122]، هُوَ وَنَحْوُهُ مِنَ الْآيَاتِ مُسْتَنَدُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ بِعَدَمِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ. لِأَنَّهُمْ يَتَدَارَكُونَهَا بِالتَّوْبَةِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى تَصِيرَ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ أَجْمَعُوا عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّبْلِيغِ اخْتِلَافًا مَشْهُورًا مَعْرُوفًا فِي الْأُصُولِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الشَّيْءِ فَإِنَّهُمْ يَتَدَارَكُونَهُ بِصِدْقِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى يَبْلُغُوا بِذَلِكَ دَرَجَةً أَعَلَا مِنْ دَرَجَةِ مَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ. كَمَا قَالَ هُنَا: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [20/ 122]،.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [20/ 115]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَانَا آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [46/ 35]، وَهُمْ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الرُّسُلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا أَيْ: لَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْرًا عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَمُوَاظَبَةً عَلَى الْتِزَامِ الْأَمْرِ.
وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا، وَالْوُجُودُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ نَجِدْ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَمَفْعُولَاهُ لَهُ عَزْمًا وَأَنْ يَكُونَ نَقِيضَ الْعَدَمِ. كَأَنَّهُ قَالَ: وَعِنْدَ مَنَالِهِ عَزْمًا اهـ. مِنْهُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.تفسير الآية رقم (116):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى}.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى. أَيْ: أَبَى أَنْ يَسْجُدَ. فَذَكَرَ عَنْهُ هُنَا الْإِبَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ هُنَا الِاسْتِكْبَارَ. وَذَكَرَ عَنْهُ الْإِبَاءَ أَيْضًا فِي الْحِجْرِ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [15/ 31]،. وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْحِجْرِ هَذِهِ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ يُبَيِّنُ مَعْمُولَ أَبَى الْمَحْذُوفَ فِي آيَةِ طه هَذِهِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [20/ 116]، أَيْ: أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحِجْرِ وَكَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [7/ 11]، وَذَكَرَ عَنْهُ فِي سُورَةِ ص الِاسْتِكْبَارَ وَحْدَهُ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [38]، وَذَكَرَ عَنْهُ الْإِبَاءَ، وَالِاسْتِكْبَارَ مَعًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [2]،. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ سَبَبَ اسْتِكْبَارِهِ فِي زَعْمِهِ وَأَدِلَّةِ بُطْلَانِ شُبْهَتِهِ فِي زَعْمِهِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ هَلْ أَصْلُهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ لَا؟
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} صَرَّحَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ السُّجُودَ الْمَذْكُورَ سَجَدَهُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ لَا بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [38- 74].

.تفسير الآيات (117-119):

{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}.
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي الْكَهْفِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَتَشْقَى أَيْ: فَتَتْعَبُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ بِالْكَدِّ، وَالِاكْتِسَابِ. لِأَنَّهُ لَا يُحَصِّلُ لُقْمَةَ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى يَحْرُثَ الْأَرْضَ، ثُمَّ يَزْرَعُهَا، ثُمَّ يَقُومُ عَلَى الزَّرْعِ حَتَّى يُدْرِكَ، ثُمَّ يَدْرُسُهُ، ثُمَّ يُنَقِّيهِ، ثُمَّ يَطْحَنُهُ، ثُمَّ يَعْجِنُهُ، ثُمَّ يَخْبِزُهُ. فَهَذَا شَقَاؤُهُ الْمَذْكُورُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّقَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّعَبُ فِي اكْتِسَابِ الْمَعِيشَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [20/ 118- 119]، يَعْنِي احْذَرْ مِنْ عَدُوِّكَ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ دَارِ الرَّاحَةِ الَّتِي يُضْمَنُ لَكَ فِيهَا الشِّبَعُ، وَالرِّيُّ، وَالْكُسْوَةُ، وَالسَّكَنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْأَقْطَابُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا كَفَافُ الْإِنْسَانِ، فَذِكْرُهُ اسْتِجْمَاعَهَا لَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ مَكْفِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كِفَايَةِ كَافٍ، وَلَا إِلَى كَسْبِ كَاسِبٍ كَمَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ أَهْلُ الدُّنْيَا. وَذِكْرُهَا بِلَفْظِ النَّفْيِ لِنَقَائِضِهَا الَّتِي هِيَ الْجُوعُ، وَالْعُرْيُ، وَالظَّمَأُ، وَالضَّحْوُ لِيَطْرُقَ سَمْعَهُ بِأَسَامِي أَصْنَافِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ مِنْهَا، حَتَّى يَتَحَامَى السَّبَبَ الْمُوقِعَ فِيهَا كَرَاهَةً لَهَا اهـ.
فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [20/ 118]، قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّقَاءَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ تَعَبُ الدُّنْيَا فِي كَدِّ الْمَعِيشَةِ لِيَدْفَعَ بِهِ الْجُوعَ، وَالظَّمَأَ، وَالْعُرْيَ، وَالضَّحَاءَ. وَالْجُوعُ مَعْرُوفٌ، وَالظَّمَأُ: الْعَطَشُ. وَالْعُرْيُ بِالضَّمِّ: خِلَافُ اللُّبْسِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَضْحَى} أَيْ: لَا تَصِيرُ بَارِزًا لِلشَّمْسِ، لَيْسَ لَكَ مَا تَسْتَكِنُّ فِيهِ مِنْ حَرِّهَا. تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَحِيَ يَضْحَى، كَرَضِيَ يَرْضَى. وَضَحَى يَضْحَى كَسَعَى يَسْعَى إِذَا كَانَ بَارِزًا لِحَرِّ الشَّمْسِ لَيْسَ لَهُ مَا يَكِنُّهُ مِنْهُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
رَأَتْ رَجُلًا أَيْمًا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ** فَيَضَحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَنْحَصِرْ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
ضَحِيتُ لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ ** إِذَا الظِّلُّ أَضْحَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصًا

وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا نَافِعًا وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنْ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَصِلَتِهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ أَيْ: وَإِنَّ لَكَ أَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى. وَيَجُوزُ فِي الْمَصْدَرِ الْمَعْطُوفِ الْمَذْكُورِ النَّصْبُ، وَالرَّفْعُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى ** مَنْصُوبِ إِنَّ بَعْدَ أَنْ تَسْتَكْمِلَا

وَإِيضَاحُ تَقْدِيرِ الْمَصْدَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: إِنَّ لَكَ عَدَمَ الْجُوعِ فِيهَا، وَعَدَمَ الظَّمَأِ.
تَنْبِيهٌ:
أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وُجُوبَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} [20/ 117]، بِخِطَابٍ شَامِلٍ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، ثُمَّ خَصَّ آدَمَ بِالشَّقَاءِ دُونَهَا فِي قَوْلِهِ فَتَشْقَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِالْكَدِّ عَلَيْهَا وَتَحْصِيلِ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ الضَّرُورِيَّةِ لَهَا: مِنْ مَطْعَمٍ، وَمَشْرَبٍ، وَمَلْبَسٍ، وَمَسْكَنٍ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِذِكْرِ الشَّقَاءِ وَلَمْ يَقُلْ فَتَشْقَيَا يُعَلِّمُنَا أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، فَمِنْ يَوْمئِذٍ جَرَتْ نَفَقَةُ النِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ. فَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ حَوَّاءَ عَلَى آدَمَ كَذَلِكَ نَفَقَاتُ بَنَاتِهَا عَلَى بَنِي آدَمَ بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ. وَأَعْلَمَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ النَّفَقَةَ الَّتِي تَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ: الطَّعَامُ، وَالشَّرَابُ، وَالْكُسْوَةُ، وَالْمَسْكَنُ. فَإِذَا أَعْطَاهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فَقَدْ خَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ نَفَقَتِهَا، فَإِنْ تَفَضَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْجُورٌ. فَأَمَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَلَا بُدَّ مِنْهَا. لِأَنَّ بِهَا إِقَامَةَ الْمُهْجَةِ اهـ. مِنْهُ.
وَذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ: أَنَّهُ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ أُهْبِطَ إِلَيْهِ ثَوْرٌ أَحْمَرُ وَحَبَّاتٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَكَانَ يَحْرُثُ عَلَى ذَلِكَ الثَّوْرِ وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ وَذَلِكَ مِنَ الشَّقَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ فِي اصْطِلَاحِ الْبَلَاغِيِّينَ، هُوَ مَا يُسَمَّى مُرَاعَاةَ النَّظِيرِ، وَيُسَمَّى التَّنَاسُبَ، وَالِائْتِلَافَ. وَالتَّوْفِيقَ، وَالتَّلْفِيقَ. فَهَذِهِ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ. وَضَابِطُهُ: أَنَّهُ جَمْعُ أَمْرٍ وَمَا يُنَاسِبُهُ لَا بِالتَّضَادِّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [55/ 5]، فَإِنَّ الشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ مُتَنَاسِبَانِ لَا بِالتَّضَادِّ. وَكَقَوْلِ الْبُحْتُرِيَّ يَصِفُ الْإِبِلَ الْأَنْضَاءَ الْمَهَازِيلَ، أَوِ الرِّمَاحَ:
كَالْقِسِيِّ الْمُعَطَّفَاتِ بَلِ ** الْأَسْهُمِ مَبْرِيَّةٍ بَلِ الْأَوْتَارِ

وَبَيْنَ الْأَسْهُمِ، وَالْقِسِيِّ الْمُعَطَّفَاتِ، وَالْأَوْتَارِ مُنَاسَبَةٌ فِي الرِّقَّةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَرَقَّ مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَا بِالتَّضَادِّ. وَكَقَوْلِ ابْنِ رَشِيقٍ:
أَصَحُّ وَأَقْوَى مَا سَمِعْنَاهُ فِي النَّدَى ** مِنَ الْخَبَرِ الْمَأْثُورِ مُنْذُ قَدِيمِ

أَحَادِيثُ تَرْوِيهَا السُّيُولُ عَنِ الْحَيَا ** عَنِ الْبَحْرِ عَنْ كَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمِ

فَقَدْ نَاسَبَ بَيْنَ الصِّحَّةِ، وَالْقُوَّةِ، وَالسَّمَاعِ، وَالْخَبَرِ الْمَأْثُورِ، وَالْأَحَادِيثِ، وَالرِّوَايَةِ، وَكَذَا نَاسَبَ بَيْنَ السَّيْلِ، وَالْحَيَا وَهُوَ الْمَطَرُ، وَالْبَحْرِ وَكَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمٍ، وَكَقَوْلِ أُسَيْدِ بْنِ عَنْقَاءَ الْفَزَارِيِّ:
كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي جَبِينِهِ ** وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَى وَفِي وَجْهِهِ الْبَدْرُ

فَقَدْ نَاسَبَ بَيْنَ الثُّرَيَّا، وَالشِّعْرَى، وَالْبَدْرِ، كَمَا نَاسَبَ بَيْنَ الْجَبِينِ، وَالْوَجْنَةِ، وَالْوَجْهِ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي فَنِّ الْبَلَاغَةِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَاسَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى بَيْنَ نَفْيِ الْجُوعِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْحَرَارَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَالْأَلَمِ الْبَاطِنِيِّ الْوِجْدَانِيِّ، وَبَيْنَ نَفْيِ الْعُرْيِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الظَّاهِرِيِّ مِنْ أَذَى الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَا بِالتَّضَادِّ. كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى نَاسَبَ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى بَيْنَ نَفْيِ الظَّمَأِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الْبَاطِنِيِّ الْوِجْدَانِيِّ الَّذِي يُسَبِّبُهُ الظَّمَأُ. وَبَيْنَ نَفْيِ الضُّحَى الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الظَّاهِرِيِّ الَّذِي يُسَبِّبُهُ حَرُّ الشَّمْسِ وَنَحْوُهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
بِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُسَمَّى قَطْعَ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ، وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ قَطْعِ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ الْمَزْعُومِ تَحْقِيقُ تَعْدَادِ هَذِهِ النِّعَمِ وَتَكْثِيرِهَا. لِأَنَّهُ لَوْ قَرَنَ النَّظِيرَ بِنَظِيرِهِ لَأَوْهَمَ أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِهَذَا قَطَعَ الظَّمَأَ عَنِ الْجُوعِ، وَالضَّحْوَ عَنِ الْكُسْوَةِ، مَعَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ التَّنَاسُبِ. وَقَالُوا: وَمِنْ قَطْعِ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ الْمَذْكُورِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ ** وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ

وَلَمْ أَسْبَأِ الزِّقَ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ ** لِخَيْلٍ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ

فَقَطَعَ رُكُوبَ الْجَوَادِ مِنْ قَوْلِهِ لِخَيْلٍ كُرِّي كَرَّةً وَقَطَعَ تَبَطُّنَ الْكَاعِبِ عَنْ شُرْبِ الزِّقَ الرَّوِيَّ مَعَ التَّنَاسُبِ فِي ذَلِكَ. وَغَرَضُهُ أَنْ يُعَدِّدَ مَلَاذَّهُ وَمَفَاخِرَهُ وَيُكَثِّرَهَا. كُلُّهُ كَلَامٌ لَا حَاجَةَ لَهُ لِظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ كَمَا أَوْضَحْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (120):

{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}.
الْوَسْوَسَةُ، وَالْوَسْوَاسُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ، وَالْكِلَابِ، وَصَوْتِ الْحُلِيِّ: وَسْوَاسٌ. وَالْوِسْوَسُ بِكَسْرِ الْوَاوِ الْأُولَى مَصْدَرٌ، وَبِفَتْحِهَا الِاسْمُ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيْطَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [114/ 4]، وَيُقَالُ لِحَدِيثِ النَّفْسِ: وَسْوَاسٌ وَوَسْوَسَةٌ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْوَسْوَاسِ عَلَى صَوْتِ الْحُلِيِّ قَوْلُ الْأَعْشَى:
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا انْصَرَفَتْ ** كَمَا اسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ

وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى هَمْسِ الصَّائِدِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
فَبَاتَ يُشْئِزُهُ ثَأْدٌ وَيُسْهِرُهُ ** تَذَؤُّبُ الرِّيحِ وَالْوَسْوَاسُ وَالْهِضَبُ

وَقَوْلُ رُؤْبَةَ:
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الْفَلَقْ ** سِرًّا وَقَدْ أَوَّنَ تَأْوِينَ الْعَقَقْ

فِي الزَّرْبِ لَوْ يَمْضُعُ شُرْبًا مَا بَصَقَ وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [20/ 120]، أَيْ: كَلَّمَهُ كَلَامًا خَفِيًّا فَسَمِعَهُ مِنْهُ آدَمُ وَفَهِمَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَلَامٌ مِنْ إِبْلِيسَ سَمِعَهُ آدَمُ وَفَهِمَهُ أَنَّهُ فَسَّرَ الْوَسْوَسَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا قَوْلٌ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [20/ 120]،. فَالْقَوْلُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْوَسْوَسَةُ الْمَذْكُورَةُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ وَسْوَسَ إِلَى حَوَّاءَ أَيْضًا مَعَ آدَمَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْلِهِ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [7/ 21]، لِأَنَّ تَصْرِيحَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ هَذِهِ بِأَنَّ إِبْلِيسَ قَاسَمَهُمَا أَيْ: حَلَفَ لَهُمَا عَلَى أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْكَذِبِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ الْمَذْكُورَةَ كَلَامٌ مَسْمُوعٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى آدَمَ إِشْكَالًا مَعْرُوفًا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِبْلِيسُ قَدْ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ صَاغِرًا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، فَكَيْفَ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى وَسْوَسَ لِآدَمَ؟، وَالْمُفَسِّرُونَ يَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ قِصَّةَ الْحَيَّةِ، وَأَنَّهُ دَخَلَ فِيهَا فَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ، وَالْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِهَا لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَقِفَ إِبْلِيسُ خَارِجَ الْجَنَّةِ قَرِيبًا مِنْ طَرَفِهَا بِحَيْثُ يَسْمَعُ آدَمُ كَلَامَهُ وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَإِمْكَانُ أَنْ يُدْخِلَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا لِامْتِحَانِ آدَمَ وَزَوْجِهِ، لَا لِكَرَامَةِ إِبْلِيسَ. فَلَا مُحَالَ عَقْلًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَالْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ بِأَنَّ إِبْلِيسَ كَلَّمِ آدَمَ، وَحَلَفَ لَهُ حَتَّى غَرَّهُ وَزَوْجَهُ بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أَضَافَ الشَّجَرَةَ إِلَى الْخُلْدِ وَهُوَ الْخُلُودُ. لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ الْكَاذِبِ خَالِدًا لَا يَمُوتُ، وَلَا يَزُولُ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ فِي زَعْمِهِ مُلْكٌ لَا يَبْلَى أَيْ: لَا يَفْنَى، وَلَا يَنْقَطِعُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى يَدُلُّ لِمَعْنَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} [7/ 20] بِكَسْرِ اللَّامِ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [7/ 20]، هُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ فِي طه: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [20/ 120]،.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا وَسْوَسَ بِهِ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ: أَنَّهُمَا إِنْ أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا اللَّهُ عَنْهَا نَالَا الْخُلُودَ، وَالْمُلْكَ، وَصَارَا مَلَكَيْنِ، وَحَلَفَ لَهُمَا أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، يُرِيدُ لَهُمَا الْخُلُودَ، وَالْبَقَاءَ، وَالْمُلْكَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ. وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ آدَمَ لَمَّا سَمِعَهُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ اعْتَقَدَ مِنْ شِدَّةِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ أَحَدٌ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَنْسَاهُ ذَلِكَ الْعَهْدَ بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّجَرَةِ.
تَنْبِيهٌ:
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: {كَيْفَ عَدَّى فِعْلَ الْوَسْوَسَةِ فِي طه بِإِلَى فِي قَوْلِهِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مَعَ أَنَّهُ عَدَّاهُ فِي الْأَعْرَافِ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [7/ 20]،. وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ.
أَحَدُهَا: أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَاللَّامُ تَأْتِي بِمَعْنَى إِلَى كَعَكْسِ ذَلِكَ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} يُرِيدُ إِلَيْهِمَا، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تُوَصِّلُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ كُلِّهَا الْفِعْلَ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي اللِّسَانِ. وَمِنَ الْأَجْوِبَةِ عَنْ ذَلِكَ: إِرَادَةُ التَّضْمِينِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ:
فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ عَدَّى وَسْوَسَ تَارَةً بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ وَأُخْرَى بِإِلَى؟ قُلْتُ: وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ كَوَلْوَلَةِ الثَّكْلَى، وَوَعْوَعَةِ الذِّئْبِ، وَوَقْوَقَةِ الدَّجَاجَةِ، فِي أَنَّهَا حِكَايَاتٌ لِلْأَصْوَاتِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ صَوْتٍ وَأَجْرُسٍ. وَمِنْهُ وَسْوَسَ الْمُبَرْسَمُ وَهُوَ مُوَسْوِسٌ بِالْكَسْرِ، وَالْفَتْحُ لَحْنٌ. وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الْفَلَقْ

فَإِذَا قُلْتَ: وَسْوَسَ لَهُ. فَمَعْنَاهُ لِأَجْلِهِ. كَقَوْلِهِ:
أَجْرِسْ لَهَا يَا ابْنَ أَبِي كِبَاشٍ ** فَمَا لَهَا اللَّيْلَةَ مِنْ إِنْفَاشِ

غَيْرَ السُّرَى وَسَائِقٍ نَجَّاشِ وَمَعْنَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ أَنْهَى إِلَيْهِ الْوَسْوَسَةَ. كَقَوْلِهِ: حَدَّثَ إِلَيْهِ وَأَسَرَّ إِلَيْهِ اهـ. مِنْهُ. وَهَذَا الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُوَ مَعْنَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ، وَالْكُوفِيِّينَ فِي تَعَاقُبِ حُرُوفِ الْجَرِّ، وَإِتْيَانِ بَعْضِهَا مَكَانَ بَعْضٍ هَلْ هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى التَّضْمِينِ، أَوْ لِأَنَّ الْحُرُوفَ يَأْتِي بَعْضُهَا بِمَعْنَى بَعْضٍ؟ وَسَنَذْكُرُ مِثَالًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ يَتَّضِحُ بِهِ الْمَقْصُودُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى مَثَلًا: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} الْآيَةَ [21/ 77] عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّضْمِينِ. فَالْحَرْفُ الَّذِي هُوَ مِنْ وَارِدٌ فِي مَعْنَاهُ لَكِنَّ نَصَرَ هُنَا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الْإِنْجَاءِ، وَالتَّخْلِيصِ، أَيْ: أَنْجَيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا. وَالْإِنْجَاءُ مَثَلًا يَتَعَدَّى بِمِنْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَنَصَرَ وَارِدٌ فِي مَعْنَاهُ، لَكِنَّ مِنْ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: نَصَرْنَاهُ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الْآيَةَ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَا يُشَاكِلُهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ أَنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ آدَمَ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا اخْتِلَافٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْيِينِهَا، وَعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي مَعْرِفَةِ عَيْنِهَا.
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ السُّنْبُلَةُ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ شَجَرَةُ الْكَرْمِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ شَجَرَةُ التِّينِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ.

.تفسير الآية رقم (121):

{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى}.
الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَأَكَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ أَكْلِهِمَا هُوَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَيْ: فَأَكَلَا مِنْهَا بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ. وَكَذَلِكَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَكْلُهُمَا مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَكَانَتْ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ سَبَبًا لِلْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. وَكَانَ الْأَكْلُ مِنْهَا سَبَبًا لِبُدُوِّ سَوْءَاتِهِمَا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ، وَالتَّنْبِيهِ: أَنَّ الْفَاءَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِمْ: سَهَا فَسَجَدَ، أَيْ: لِعِلَّةِ سَهْوِهِ. سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَيْ: لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِ. كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا} [20/ 120- 121]، أَيْ: بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا، أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ الْأَكْلِ، فَفِي الْآيَةِ ذِكْرُ السَّبَبِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ هُنَا كَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ هِيَ سَبَبُ مَا وَقَعَ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [2/ 36]، فَصَرَّحَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الَّذِي أَزَلَّهُمَا. وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: {فَأَزَالَهُمَا} وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ، أَيْ: مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} الْآيَةَ [7/ 27] وَقَوْلُهُ: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [7/ 22]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ طه هَذِهِ مِنْ تَرَتُّبِ بُدُوِّ سَوْءَاتِهِمَا عَلَى أَكْلِهِمَا مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [7/ 22]، وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [7/ 27].
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ كَانَا فِي سِتْرٍ مِنَ اللَّهِ يَسْتُرُ بِهِ سَوْءَاتِهِمَا، وَأَنَّهُمَا لَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا رَبُّهُمَا عَنْهُمَا انْكَشَفَ ذَلِكَ السِّتْرُ بِسَبَبِ تِلْكَ الزَّلَّةِ. فَبَدَتْ سَوْءَاتُهُمَا أَيْ: عَوْرَاتُهُمَا. وَسُمِّيَتَ الْعَوْرَةُ سَوْءَةً لِأَنَّ انْكِشَافَهَا يَسُوءُ صَاحِبَهَا، وَصَارَا يُحَاوِلَانِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ بِوَرَقِ شَجَرِ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ هُنَا: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [20/ 121]، وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [7/ 27]،.
وَقَوْلُهُ وَطَفِقَا أَيْ: شَرَعَا. فَهِيَ مِنْ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ، وَلَا يَكُونُ خَبَرُ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ إِلَّا فِعْلًا مُضَارِعًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِأَنْ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَتَرْكُ أَنْ مَعَ ذِي الشُّرُوعِ وَجَبَا

كَأَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو وَطَفِقْ ** وَكَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقْ

فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ أَيْ: شَرَعَا يَلْزَقَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لِيَسْتُرَا بِهِ عَوْرَاتِهِمَا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَصَفَ النَّعْلَ يَخْصِفُهَا: إِذَا خَرَّزَهَا: وَخَصَفَ الْوَرَقَ عَلَى بَدَنِهِ: إِذَا أَلْزَقَهَا وَأَطْبَقَهَا عَلَيْهِ وَرَقَةً وَرَقَةً. وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ وَرَقَ الْجَنَّةِ الَّتِي طَفِقَ آدَمُ وَحَوَّاءُ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْهُ إِنَّهُ وَرَقُ التِّينِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السِّتْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَانْكَشَفَ عَنْهُمَا لَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِهِ، فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ مِنْ جِنْسِ الظُّفُرِ. فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ أَزَالَهُ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَّا مَا أَبْقَى عَلَى رُءُوسِ الْأَصَابِعِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ لِبَاسُهُمَا نُورًا يَسْتُرُ اللَّهُ بِهِ سَوْءَاتِهِمَا. وَقِيلَ: لِبَاسٌ مِنْ يَاقُوتٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَهُوَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الْوَاقِعِ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَغَايَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنَّهُمَا كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ يَسْتُرُهُمَا اللَّهُ بِهِ. فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ نَزَعَ عَنْهُمَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اللِّبَاسُ الْمَذْكُورُ الظُّفُرَ أَوِ النُّورَ، أَوْ لِبَاسَ التَّقْوَى، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ.
وَأَسْنَدَ جَلَّ وَعَلَا إِبْدَاءَ مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا إِلَى الشَّيْطَانِ قَوْلُهُ: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [7/ 20]، كَمَا أُسْنِدَ لَهُ نَزْعُ اللِّبَاسِ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [7/ 27]، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَسَبِّبُ فِي ذَلِكَ بِوَسْوَسَتِهِ وَتَزْيِينِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ جُعِلَ سَبَبُ الزَّلَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ مُخْتَصًّا بِآدَمَ دُونَ حَوَّاءَ قَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ سَبَّبَتِ الزَّلَّةَ لَهُمَا مَعًا كَمَا أَوْضَحْنَاهُ.
وَالْجَوَابُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهُ وَسْوَسَ لِحَوَّاءَ أَيْضًا مَعَ آدَمَ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا فِي قَوْلِهِ: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [7/ 20]، فَبَيَّنَتْ آيَةُ الْأَعْرَافِ مَا لَمْ تُبَيِّنْهُ آيَةُ طه كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ أَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يَدُلُّ عَلَى قُبْحِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي بَذْلُ الْجُهْدِ فِي سَتْرِهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَا نَصُّهُ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قُبْحِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا السَّتْرَ، وَلِذَلِكَ ابْتَدَرَا إِلَى سَتْرِهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْمَرَا بِذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قِيلَ لَهُمَا: {حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [7/ 19]. وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ إِلَّا وَرَقَ الشَّجَرِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَقِرَّ بِذَلِكَ. لِأَنَّهُ سُتْرَةٌ ظَاهِرَةٌ، عَلَيْهِ التَّسَتُّرُ بِهَا كَمَا فَعَلَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَوُجُوبُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الْآيَةَ [7/ 31] وَكَبَعْثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُنَادِي عَامَ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ عَامَ تِسْعٍ: «أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَأَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ». وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَنْعِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ أَمَامَ النَّاسِ. وَسَيَأْتِي بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ النُّورِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَمَعَ السَّوْءَاتِ فِي قَوْلِهِ سَوْآتُهُمَا مَعَ أَنَّهُمَا سَوْأَتَانِ فَقَطْ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ سَوْءَتَانِ: الْقُبُلُ، وَالدُّبُرُ، فَهِيَ أَرْبَعٌ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى قُبُلَ نَفْسِهِ وَقُبُلَ الْآخَرِ، وَدُبُرَهُ. وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ فِي الْجَمْعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُثَنَّى إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ شَيْئَانِ هَمَا جُزْآهُ جَازَ فِي ذَلِكَ الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ شَيْئَانِ الْجَمْعُ، وَالتَّثْنِيَةُ، وَالْإِفْرَادُ، وَأَفْصَحُهَا الْجَمْعُ، فَالْإِفْرَادُ، فَالتَّثْنِيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، سَوَاءٌ كَانَتَ الْإِضَافَةُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى. وَمِثَالُ اللَّفْظِ: شَوَيْتُ رُءُوسَ الْكَبْشَيْنِ أَوْ رَأْسَهُمَا، أَوْ رَأْسَيْهِمَا. وَمِثَالُ الْمَعْنَى: قَطَعْتُ مِنَ الْكَبْشَيْنِ الرُّءُوسَ، أَوِ الرَّأْسَ، أَوِ الرَّأْسَيْنِ. فَإِنْ فُرِّقَ الْمُثَنَّى الْمُضَافُ إِلَيْهِ فَالْمُخْتَارُ فِي الْمُضَافِ الْإِفْرَادُ، نَحْوَ: {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}.
وَمِثَالُ جَمْعِ الْمُثَنَّى الْمُضَافِ الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ الْأَفْصَحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [66/ 4]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [5/ 38]، وَمِثَالُ الْإِفْرَادِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي ** سَقَاكِ مِنَ الْغُرِّ الْغَوَادِي مَطِيرُهَا

وَمِثَالُ التَّثْنِيَةِ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنِ ** ظَهْرَاهُمَا مِثْلَ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ

وَالضَّمَائِرُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الْمُضَافِ الْمَذْكُورِ الْمَجْمُوعِ لَفْظًا وَهُوَ مُثَنَّى مَعْنًى يَجُوزُ فِيهَا الْجَمْعُ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، وَالتَّثْنِيَةُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ:
خَلِيلَيَّ لَا تَهْلِكْ نُفُوسُكُمَا أَسًى ** فَإِنَّ لَهُمَا فِيمَا بِهِ دُهِيتُ أَسًى

وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ:
قُلُوبُكُمَا يَغْشَاهُمَا الْأَمْنُ عَادَةً ** إِذَا مِنْكُمَا الْأَبْطَالُ يَغْشَاهُمُ الذُّعْرُ

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ. قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ:
أَقَلُّ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي الْمُشْتَهِرِ ** الِاثْنَانِ فِي رَأْيِ الْإِمَامِ الْحُمَيْرِي

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاثْنَانِ الْمُضَافَانِ مُنْفَصِلَيْنِ عَنِ الْمُثَنَّى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: كَانَا غَيْرَ جُزْأَيْهِ فَالْقِيَاسُ الْجَمْعُ وِفَاقًا لِلْفَرَّاءِ، كَقَوْلِكَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا، وَإِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى مَضَاجِعِكُمَا، وَضَرَبَاهُ بِأَسْيَافِهِمَا، وَسَأَلَتَا عَنْ إِنْفَاقِهِمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}.
الْمَعْصِيَةُ خِلَافَ الطَّاعَةِ. فَقَوْلُهُ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى أَيْ: لَمْ يُطِعْهُ فِي اجْتِنَابِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ مِنْ قُرْبَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: {فَغَوَى} الْغَيُّ: الضَّلَالُ، وَهُوَ الذَّهَابُ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: لَمْ يُطِعْ آدَمُ رَبَّهُ فَأَخْطَأَ طَرِيقَ الصَّوَابِ بِسَبَبِ عَدَمِ الطَّاعَةِ، وَهَذَا الْعِصْيَانُ، وَالْغَيُّ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ مِنَ الْجَنَّةِ رَغَدًا حَيْثُ شَاءَا، وَنَهَاهُمَا أَنْ يَقَرَبَا شَجَرَةً مُعَيَّنَةً مِنْ شَجَرِهَا. فَلَمْ يَزَلِ الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ لَهُمَا وَيَحْلِفُ لَهُمَا بِاللَّهِ إِنَّهُ لَهُمَا لَنَاصِحٌ، وَإِنَّهُمَا إِنْ أَكَلَا مِنْهَا نَالَا الْخُلُودَ وَالْمُلْكَ الَّذِي لَا يَبْلَى. فَخَدَعَهُمَا بِذَلِكَ كَمَا نَصَّ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [7/ 21]، فَأَكَلَا مِنْهَا. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: مَنْ خَادَعَنَا بِاللَّهِ خَدَعَنَا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ: «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ». وَأَنْشَدَ لِذَلِكَ نَفْطَوَيْهِ:
إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا تَشَاءُ خَدَعْتَهُ ** وَتَرَى اللَّئِيمَ مُجَرِّبًا لَا يُخْدَعُ

فَآدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا صَدَرَتْ مِنْهُ الزَّلَّةُ إِلَّا بِسَبَبِ غُرُورِ إِبْلِيسَ لَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ آدَمَ مِنْ شِدَّةِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ كَاذِبٌ فَأَنْسَاهُ حَلِفُ إِبْلِيسَ بِاللَّهِ الْعَهْدَ بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّجَرَةِ. وَقَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَغَوَى أَيْ: فَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ بِنُزُولِهِ إِلَى الدُّنْيَا.
قَالُوا: وَالْغَيُّ. الْفَسَادُ، خِلَافُ الظَّاهِرِ وَإِنْ حَكَاهُ النَّقَّاشُ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فَغَوَى أَيْ: بَشَمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ. وَالْبَشَمُ: التُّخَمَةُ، فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقْلِبُ الْيَاءَ الْمَكْسُورَةَ مَا قَبْلَهَا أَلِفًا فَيَقُولُ فِي فَنِيَ وَبَقِيَ، فَنَا وَبَقَا، وَهُمْ بَنُو طَيِّئٍ تَفْسِيرٌ خَبِيثٌ، اهـ. مِنْهُ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ لُغَةِ طَيِّئٍ مَعْرُوفٌ. فَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجَارِيَةِ: جَارَاةٌ، وَلِلنَّاصِيَةِ نَاصَاةٌ، وَيَقُولُونَ فِي بَقِيَ بَقَى كَرَمَى. وَمِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَعَمْرُكَ لَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَى ** عَلَى الْأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الْأَبَاعِرَا

وَهَذِهِ اللُّغَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ لَا حَاجَةَ لَهَا فِي التَّفْسِيرِ الْبَاطِلِ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: غَوَى الْفَصِيلُ كَرَضِيَ وَكَرَمَى: إِذَا بَشَمَ مِنَ اللَّبَنِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَعَصَى آدَمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى غَوَى ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَأَمْثَالَهَا فِي الْقُرْآنِ هِيَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِنَ الصَّغَائِرِ. وَعِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَبْحَثٌ أُصُولِيٌّ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا طَرَفًا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الْأُصُولِ:
مَسْأَلَةٌ الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَعْصِيَةٌ. وَخَالَفَ الرَّوَافِضُ، وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَّا فِي الصَّغَائِرِ. وَمُعْتَمَدُهُمُ التَّقْبِيحُ الْعَقْلِيُّ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ الرِّسَالَةِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي الْأَحْكَامِ. لِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ. وَجَوَّزَهُ الْقَاضِي غَلَطًا وَقَالَ: دَلَّتْ عَلَى الصِّدْقِ اعْتِقَادًا. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْمَعَاصِي فَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالصَّغَائِرِ الْخَسِيسَةِ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى جَوَازِ غَيْرِهِمَا اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: عِصَمَتُهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ صَغَائِرِ الْخِسَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ.
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَلَوِيُّ الشَّنْقِيطِيُّ فِي نَشْرِ الْبُنُودِ شَرْحِ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ:
وَالْأَنْبِيَاءُ عُصِمُوا مِمَّا نَهَوْا ** عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَفُكُّهٌ

بِجَائِزٍ بَلْ ذَاكَ لِلتَّشْرِيعِ ** أَوْ نِيَّةِ الزُّلْفَى مِنَ الرَّفِيعِ

مَا نَصُّهُ: فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَلِ، وَالشَّرَائِعِ كُلِّهَا عَلَى وُجُوبِ عِصْمَتِهِمْ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِيمَا دَلَّ الْمُعْجِزُ الْقَاطِعُ عَلَى صِدْقِهِمْ فِيهِ. كَدَعْوَى الرِّسَالَةِ، وَمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَلَائِقِ. وَصُدُورُ الْكَذِبِ عَنْهُمْ فِيمَا ذَكَرَ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا مَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ وَمَا سِوَى الْكَذِبِ فِي التَّبْلِيغِ. فَإِنْ كَانَ كُفْرًا فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ عَمْدًا. وَمُخَالِفُ الْجُمْهُورِ الْحَشْوِيَّةُ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ: هَلِ الْمَانِعُ لِوُقُوعِ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ عَمْدًا الْعَقْلُ أَوِ السَّمْعُ؟ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَالْعَقْلُ، وَإِنْ كَانَ سَهْوًا فَالْمُخْتَارُ الْعِصْمَةُ مِنْهَا. وَأَمَّا الصَّغَائِرُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فَقَدْ جَوَّزَهَا الْجُمْهُورُ عَقْلًا. لَكِنَّهَا لَا تَقَعُ مِنْهُمْ غَيْرُ صَغَائِرَ الْخِسَّةِ فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ لَا عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا انْتَهَى مِنْهُ.
وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: عِصْمَتُهُمْ مِنَ الْكَذِبِ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ اللَّهِ وَمِنَ الْكُفْرِ، وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ. وَأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ الْأُخْرَى مِنْهُمْ عَقْلًا. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِعْلًا. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي الْمُنْتَخَبِ لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيِّ مَا مُلَخَّصُهُ: مَنَعَتِ الْأُمَّةُ وُقُوعَ الْكُفْرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا الْفُضَيْلِيَةَ مِنَ الْخَوَارِجِ قَالُوا: وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ، وَالذَّنْبُ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ. وَأَجَازَ الْإِمَامِيَّةُ إِظْهَارَ الْكُفْرِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ. وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، فَلَا يَجُوزُ عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَهْوًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى امْتِنَاعِ خَطَئِهِمْ فِي الْفُتْيَا عَمْدًا. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّهْوِ. وَأَمَّا أَفْعَالُهُمْ فَقَالَتِ الْحَشَوِيَّةُ: يَجُوزُ وُقُوعُ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ: بِجَوَازِ الصَّغَائِرِ عَمْدًا إِلَّا فِي الْقَوْلِ كَالْكَذِبِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ. وَقِيلَ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ، وَالْخَطَأِ، وَهُمْ مأخُوذُونَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا عَنْ أُمَّتِهِمْ. وَقَالَتِ الرَّافِضَةُ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ جِهَةٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ. فَقَالَتِ الرَّافِضَةُ: مِنْ وَقْتِ مَوْلِدِهِمْ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: مِنْ وَقْتِ النُّبُوَّةِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ ذَنْبٌ حَالَةَ النُّبُوَّةِ الْبَتَّةَ لَا الْكَبِيرَةُ، وَلَا الصَّغِيرَةُ. لِأَنَّهُمْ لَوْ صَدَرَ عَنْهُمُ الذَّنْبُ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةٍ مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ لِعَظِيمِ شَرَفِهِمْ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلِئَلَّا يَكُونُوا غَيْرَ مَقْبُولِي الشَّهَادَةِ، وَلِئَلَّا يَجِبَ زَجْرُهُمْ وَإِيذَاؤُهُمْ، وَلِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلِئَلَّا يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ، ولئِلَّا يَفْعَلُوا ضِدَّ مَا أُمِرُوا بِهِ لِأَنَّهُمْ مُصْطَفَوْنَ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي الْإِغْوَاءِ. انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ الْمُنْتَخَبِ، وَالْقَوْلُ فِي الدَّلَائِلِ لِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ. وَفِي إِبْطَالِ مَا يَنْبَغِي إِبْطَالُهُ مِنْهَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي حَيَّانَ.
وَحَاصِلُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: عِصْمَتُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَفِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَتَطْفِيفِ حَبَّةٍ، وَأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ غَيْرَ صَغَائِرِ الْخِسَّةِ مِنْهُمْ. وَلَكِنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ اخْتَارُوا أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ جَازَ عَقْلًا لَمْ يَقَعْ فِعْلًا، وَقَالُوا: إِنَّمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ أَوْ نِسْيَانًا أَوْ سَهْوًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ مَا يُزْرِي بِمَرَاتِبِهِمُ الْعَلِيَّةِ، وَمَنَاصِبِهِمُ السَّامِيَةِ. وَلَا يَسْتَوْجِبُ خَطَأً مِنْهُمْ، وَلَا نَقْصًا فِيهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الذُّنُوبِ لِأَنَّهُمْ يَتَدَارَكُونَ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى يَنَالُوا بِذَلِكَ أَعْلَى دَرَجَاتِهِمْ فَتَكُونُ بِذَلِكَ دَرَجَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [20/ 121]،. فَانْظُرْ أَيَّ أَثَرٍ يَبْقَى لِلْعِصْيَانِ وَالْغَيِّ بَعْدَ تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاجْتِبَائِهِ أَيِ: اصْطِفَائِهِ إِيَّاهُ، وَهِدَايَتِهِ لَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ الزَّلَّاتِ يَنَالُ صَاحِبُهَا بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا دَرَجَةً أَعْلَى مِنْ دَرَجَتِهِ قَبْلَ ارْتِكَابِ تِلْكَ الزَّلَّةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.